خديجة بنت خويلد " أم المؤمنين " |
إذا كانت العناية الإلهية قد هيأت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لدور كبير يقوم به في واقع الحياة البشرية فيحولها من الظلمات إلى النور.. فإن العناية الإلهية ذاتها.. هي التي جاءت بأمنا خديجة لتكون الزوجة العظيمة التي ترعى الزوج بحبها وحنانها وقلبها وروحها.
إن من يدرس سيرة هذه الأم العظيمة.. لا بد أن يدرك أنها جاءت على قدر لتقوم إلى جانب النبي بأعظم وأنبل دور تقوم به امرأة.
كانت أمنا خديجة تؤمّن للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الهدوء الشامل والاستقرار الكامل.. تأخذ له الطعام إلى الغار إذا أبطأ عنها.. وتكلأه بحبها إذا حضر إليها.. كانت مقتنعة بعمله.. مدركة بفطرتها السليمة أن لزوجها شأنا ًعظيما ً.
كانت أمنا خديجة له ردءا ً وعونا ً وحصنا ً يعتصم به من عوادي الدهر.. يستلهم منها الأمن عند الخوف.. ويستمد منها القوة عند الضعف.. ويجد فيها السكينة عند القلق والاضطراب
على رأس الأربعين عاما ً جاء الحق للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في غار حراء، جاءه الملك
فقال:اقرأ
فقلت: ما أنا بقارئ
قال: فأخذني فضمني حتى بلغ مني الجهد.
ثم أرسلني فقال: اقرأ
فقلت: ما أنا بقارئ
فأخذني فغتني الثالثة.. ثم أرسلني فقال:
" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ".
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة.. فقال:
"زملوني.. زملوني.. لقد خشيت على نفسي يا خديجة".
وتواجه خديجة العظيمة الموقف الكبير بمفردها.. فلا تجزع ولا ترتبك ولا تتردد.. بل تخاطب الزوج الخائف وتقول:
"كلا والله ما يخزيك الله أبدا ً.. إنك لتصل الرحم.. وتحمل الكل.. وتكسب المعدوم.. وتقري الضيف.. وتعين على نوائب الحق.
أبشر يا ابن عم واثبت.. فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة".
هل هناك شجاعة أعظم.. أو حكمة أبلغ.. أو موقف أكرم من فعل خديجة هذا وموقفها..؟
ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم حجم المسؤولية التي ألقتها العناية الإلهية على كاهله.. وأنه سيؤذى ويُخرج ويُقاتل.
وأدركت معه خديجة مقدار الواجب الكبير الذي تتحمله للوقوف إلى جانب الزوج النبي.
كانت معه بكل إحساسها ونبلها وحبها وعطفها.
كانت حزينة معه يوم فتر الوحي.. وينشرح فؤادها وهي ترى زوجها مستبشرا ً بعودته.
علمها رسول الله كيف تتوضأ وتصلي.. ولقد شهدتهما أيام مكة ولياليها يصليان لله ويحمدانه ويشكرانه على ما أولاهما من نعم.
كان بيت الرسول الذي يضم بالإضافة إلى زوجه خديجة بناتها وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة .. هو المجتمع المسلم الأول الذي آمن بالدعوة الكريمة التي نزل بها الأمين جبريل على قلب الأمين محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت خديجة في جاهليتها مشغولة في تجارتها وتنمية أموالها والمحافظة على مكانتها.. فهي اليوم مشغولة بالدعوة وكيف تكسب لها أنصارا ً.. مشغولة بالنبي وكيف تقف إلى جانبه تؤازره وتعاونه وتكلؤه.
دورها في الدعوة
وتمر الدعوة بمراحلها الصعبة.. ويقف أهل مكة موقف العداء الشديد من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعوته.. نالوه بالإساءة ووالوه بالسخرية ورموه بكل ما يكره من بذيء القول وفاحش الكلام.
نعتوه بالجنون والسفه.. واتهموه بالكهانة والسحر في كل يوم كانت عقول أهل مكة تتفتق عن مزيد من وسائل المكر والخبث والحرب ضد النبي وأصحابه.
كم عانت السيدة خديجة من جوار أبي لهب الذي تزعّم هو وزوجه أم جميل نادي قريش في الإساءة إلى النبي.. فكانت تكتفي بإزالة ما كانت تلقيه أم جميل من أقذار وأشواك تضعها في طريق النبي وأمام داره.
وسارت خديجة مع زوجها العظيم في طريق الدعوة.. والآلام.. صابرة محتسبة.. ردوا عليها بناتها رقية وأم كلثوم.. وكانتا عُقد عليهما لعتبة وعتيبة ابني أبي لهب.
هاجرت ابنتها رقية مع زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه مع أوائل المهاجرين إلى أرض الحبشة.
كانت تحس بالألم يعتصر فؤادها على غربة بناتها.. وتشتت شمل أسرتها.. ولكنها الصابرة المحتسبة.
وكيف يمكن أن تكون أما للمؤمنين ومثلا ً أعلى للمؤمنات.. إن لم تعط من نفسها القدوة والمثل في التضحية والفداء؟
وتركت خديجة دارها وانتقلت مع النبي صلى الله عليه وسلم ـ إلى شعب أبي طالب.. تقاسي ما يقاسي زوجها وما يقاسي أتباعه معه.
ولم تتوان رغم تجاوزها الستين في أن تقوم للنبي صلى الله عليه وسلم بما كانت تقوم له من قبل.
فظلت هي المواسية المشجعة المؤازرة وزير الصدق الذي عاون النبي .. وأخذ بيده منذ بدء دعوته .
ليس هذا فقط.. بل وكانت تدبر أمر إيصال بعض الطعام إلى الشعب المحاصر.. وتشرف بنفسها على توزيعه على المحاصرين.
ثلاث سنوات طوال مكثها المسلمون محاصرين في الشعب.. حتى اشتد بهم البلاء وبلغ منهم الجهد.. فأكلوا ورق الشجر وسُمع صراخ أطفالهم من بعيد.
وإذا استطاع الحصار أن ينال من الأجساد المتعبة.. إلا إنه كان يصفي المعدن الكريم فيزداد قوة وصلابة وتمسكا ً بالدعوة العظيمة.
وما أن انقضت أيام الحصار وأحس النبي صلى الله عليه وسلم أن بإمكانه استئناف دعوته.. حتى فقد عمه أبا طالب الحصن الحصين الذي كان يحوطه بكل أنواع الرعاية والحماية.
ولم تلبث خديجة أن مرضت.. واشتد بها المرض.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانبها يمرّضها ويقوم على خدمتها ويقول لها: "بالكره مني ما يجري عليك يا خديجة".
ويظل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب خديجة يخفف عنها ويذكّرها بما وعدها الله به في الجنة من نعيم.. وما أعده لها من قصر من قصب لا نصب فيه ولا صخب .. حتى فاضت روحها بين يديه صلى الله عليه وسلم.
يا حجاج البيت الحرام إذا مررتم بالحجون في مكة فألقوا التحية على أمنا الكبرى.. على خديجة المرأة العظيمة.. عظم الدعوة وعظم الرسالة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام.. فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب".
مثلهن الأعلى
لقد تفردت خديجة بهذا الفضل.. ومن أجل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم الذكر لها والحنين إليها.. يترحم عليها .. ويتحدث بأيامها.. ويبر صواحبها.. ويتهلل لمن يراه من أهلها.
روى مسلم عن عائشة قالت:
"ما غرت على نساء النبي إلا على خديجة.. وإني لم أدركها.
قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة.. فيقول: "أرسلوا بها إلى صدائق خديجة".
قالت فأغضبته يوما ً فقلت: خديجة
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني رزقت حبها".
ومرة قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: "قد أبدلك الله خيرا ًمنها".
قال: ما أبدلني الله خيرا ًمنها.. وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس.. وصدقتني إذ كذبني الناس.. وواستني بمالها حين حرمني الناس.. ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء".
هذه هي خديجة الكبرى.. الداعية الأولى.. والمثل الأعلى لبناتها المسلمات السائرات على نهجها في موكب الدعوة.
التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم:
"خير نسائها مريم بنت عمران.. وخير نسائها خديجة بنت خويلد.. وأشار الراوي إلي السماء والأرض"
وإذا كان إلى جانب كل رجل عظيم امرأة يعتمد عليها في جهاده، وفي الوصول إلى أهدافه.
فقد كانت خديجة تلك السيدة العظيمة التي ناصرت النبوة وعاونت على رفع راية الإسلام.. وجاهدت في سبيل الدعوة الإسلامية.. لم تخذل زوجها يوما ً من الأيام.. بل كانت الأولى في كل شيء في سماحة الخلق وجمال الطلعة.. ووفاء الزوجة..وشرف النسب.. وكرم المحتد .. والإيمان الثابت.. والنفس المخلصة.. والقلب السليم.
لقد كانت الحضارة الإسلامية التي أضاءت الدنيا وارتقت بالإنسان من وهدة التخلف إلى أرقى مستويات الرقي.. ملفّعة بصبر خديجة البارة بأمتها وبرسالة زوجها.
لقد كانت حصيلة حبّ وأمانة.. وتضحية ورصانة.. وجلد وصبر.. وكد وعمل.. ودفع للباطل .. وتأييد للحق
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف الأنبياء والمرسلين
0 التعليقات :
إرسال تعليق