وقالوا قلوبنا غلف |
وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون
القول في تأويل قوله تعالى: {وقالوا قلوبنا غلف} اختلفت القراء في قراءة ذلك،
فقرأه بعضهم: {وقالوا قلوبنا غلف} مخففة اللام ساكنة، وهي قراءة عامة الأمصار في جميع الأقطار.
وقرأه بعضهم: "وقالوا قلوبنا غلف " مثقلة اللام مضمومة.
فأما الذين قرؤوها بسكون اللام وتخفيفها، فإنهم تأولوها أنهم قالوا قلوبنا في أكنة وأغطية وغلف. والغلف على قراءة هؤلاء، جمع أغلف، وهو الذي في غلاف وغطاء؛ كما يقال للرجل الذي لم يختتن: أغلف، والمرأة غلفاء، وكما يقال للسيف إذا كان في غلافه: سيف أغلف، وقوس غلفاء، وجمعها "غلف " ، وكذلك جمع ما كان من النعوت ذكره على أفعل وأنثاه على فعلاء، يجمع على "فعل " مضمومة الأول ساكنة الثاني، مثل أحمر وحمر، وأصفر وصفر، فيكون ذلك جماعا للتأنيث والتذكير، ولا يجوز تثقيل عين "فعل " منه إلا في ضرورة شعر،
كما قال طرفة بن العبد :أيها الفتيان في مجلسنا جردوا منها ورادا وشقريريد: شقرا، لأن الشعر اضطره إلى تحريك ثانيه فحركه. ومنه الخبر الذي حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان، قال: حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن عمرو بن مرة الجملي، عن أبي البختري، عن حذيفة قال: القلوب أربعة. ثم ذكرها، فقال فيما ذكر: وقلب أغلف: معصوب عليه، فذلك قلب الكافر.ذكر من قال ذلك، يعني أنها في أغطية.1239 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: {وقالوا قلوبنا غلف} أي في أكنة. حدثني المثنى، قال:حدثنا أبو صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {قلوبنا غلف} أي في غطاء.
حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس،: {وقالوا قلوبنا غلف} فهي القلوب المطبوع عليها. - حدثني عباس بن محمد، قال: ثنا حجاج، قال: قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قوله: {وقالوا قلوبنا غلف} عليها غشاوة. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، قال: أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد: {وقالوا قلوبنا غلف} عليها غشاوة
- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا شريك عن الأعمش قوله: {قلوبنا غلف} قال: هي في غلف.1242 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: {وقالوا قلوبنا غلف} أي لا تفقه.1243 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: {وقالوا قلوبنا غلف} قال: هو كقوله: {قلوبنا في أكنة} . حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله: {قلوبنا غلف} قال: عليها طابع، قال هو كقوله: {قلوبنا في أكنة} .1244 - حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: {قلوبنا غلف} أي لا تفقه.1245 - حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: {وقالوا قلوبنا غلف} قال: يقولون: عليها غلاف وهو الغطاء.1246 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {قلوبنا غلف} قال: يقول قلبي في غلاف، فلا يخلص إليه مما تقول. وقرأ: {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} . [فصلت: 5] قال أبو جعفر: وأما الذين قرؤوها : "غلف " بتحريك اللام وضمها، فإنهم تأولوها أنهم قالوا: قلوبنا غلف للعلم، بمعنى أنها أوعية. قال: والغلف على تأويل هؤلاء جمع غلاف، كما يجمع الكتاب كتب، والحجاب حجب، والشهاب شهب.فمعنى الكلام على تأويل قراءة من قرأ: "غلف " بتحريك اللام وضمها: وقالت اليهود قلوبنا غلف للعلم، وأوعية له ولغيره. ذكر من قال ذلك:1247 - حدثني عبيد بن أسباط بن محمد، قال: ثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: {وقالوا قلوبنا غلف} قال: أوعية للذكر. حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا فضيل، عن عطية في قوله: {قلوبنا غلف} قال: أوعية للعلم. حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا فضيل، عن عطية، مثله.1248 - حدثت عن المنجاب، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: {وقالوا قلوبنا غلف} . قال: مملوءة علما لا تحتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره.والقراءة التي لا يجوز غيرها في قوله: {قلوبنا غلف} هي قراءة من قرأ {غلف} بتسكين اللام بمعنى أنها في أغشية وأغطية؛ لاجتماع الحجة من القراء وأهل التأويل على صحتها، وشذوذ من شذ عنهم بما خالفه من قراءة ذلك بضم اللام. وقد دللنا على أن ما جاءت به الحجة متفقة عليه حجة على من بلغه، وما جاء به المنفرد فغير جائز الاعتراض به على ما جاءت به الجماعة التي تقوم بها الحجة نقلا وقولا وعملا في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا المكان..القول في تأويل قوله تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم} .يعني جل ثناؤه بقوله: {بل لعنهم الله} بل أقصاهم الله وأبعدهم وطردهم وأخزاهم وأهلكهم بكفرهم وجحودهم آيات الله وبيناته، وما ابتعث به رسله، وتكذيبهم أنبياءه. فأخبر تعالى ذكره أنه أبعدهم منه ومن رحمته بما كانوا يفعلون من ذلك. وأصل اللعن: الطرد والإبعاد والإقصاء، يقال: لعن الله فلانا يلعنه لعنا وهو ملعون، ثم يصرف مفعول فيقال هو لعين؛ ومنه قول الشماخ بن ضرار:ذعرت به القطا ونفيت عنه مكان الذئب كالرجل اللعينقال أبو جعفر: في قول الله تعالى ذكره: {بل لعنهم الله بكفرهم} تكذيب منه للقائلين من اليهود: {قلوبنا غلف} لأن قوله: {بل} دلالة على جحده جل ذكره، وإنكاره ما ادعوا من ذلك؛ إذ كانت "بل " لا تدخل في الكلام إلا نقضا لمجحود.فإذا كان ذلك كذلك، فبين أن معنى الآية: وقالت اليهود قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه يا محمد. فقال الله تعالى ذكره: ما ذلك كما زعموا، ولكن الله أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته وطردهم عنها وأخزاهم بجحودهم له ولرسله فقليلا ما يؤمنون..القول في تأويل قوله تعالى: {فقليلا ما يؤمنون} .اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {فقليلا ما يؤمنون} . فقال بعضهم: معناه: فقليل منهم من يؤمن، أي لا يؤمن منهم إلا قليل. ذكر من قال ذلك:1249 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: {بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون} فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب، إنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير.1250 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: {فقليلا ما يؤمنون} قال: لا يؤمن منهم إلا قليل.وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم. ذكر من قال ذلك:1251 - حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: {فقليلا ما يؤمنون} قال: لا يؤمن منهم إلا قليل. قال معمر: وقال غيره: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم.وأولى التأويلات في قوله: {فقليلا ما يؤمنون} بالصواب ما نحن متقنوه إن شاء الله؛ وهو أن الله جل ثناؤه أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم أخبر عنهم أنهم قليلو الإيمان بما أنزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك نصب قوله: { فقليلا} لأنه نعت للمصدر المتروك ذكره، ومعناه: بل لعنهم الله بكفرهم فإيمانا قليلا ما يؤمنون. فقد تبين إذا بما بينا فساد القول الذي روي عن قتادة في ذلك؛ لأن معنى ذلك لو كان على ما روي من أنه يعني به: فلا يؤمن منهم إلا قليل، أو فقليل منهم من يؤمن، لكان القليل مرفوعا لا منصوبا؛ لأنه إذا كان ذلك تأويله كان القليل حينئذ مرافعا "ما " وإن نصب القليل، و "ما " في معنى "من " أو "الذي " بقيت "ما " لا مرافع لها، وذلك غير جائز في لغة أحد من العرب.فأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في معنى "ما " التي في قوله: {فقليلا ما يؤمنون} فقال بعضهم: هي زائدة لا معنى لها، وإنما تأويل الكلام: فقليلا يؤمنون، كما قال جل ذكره: {فبما رحمة من الله لنت لهم} [آل عمران: 159] وما أشبه ذلك. فزعم أن "ما " في ذلك زائدة، وأن معنى الكلام: فبرحمة من الله لنت لهم؛ وأنشد في ذلك محتجا لقوله ذلك ببيت مهلهل:لو بأبانين جاء يخطبها خضب ما أنف خاطب بدموزعم أنه يعني: خضب أنف خاطب بدم، وأن "ما " زائدة.وأنكر آخرون ما قاله قائل هذا القول في "ما " في الآية، وفي البيت الذي أنشده، وقالوا: إنما ذلك من المتكلم على ابتداء الكلام بالخبر عن عموم جميع الأشياء، إذ كانت "ما " كلمة تجمع كل الأشياء ثم تخص وتعم ما عمته بما تذكره بعدها. وهذا القول عندنا أولى بالصواب؛ لأن زيادة "ما " لا تفيد من الكلام معنى في الكلام غير جائز إضافته إلى الله جل ثناؤه. ولعل قائلا أن يقول: هل كان للذين أخبر الله عنهم أنهم قليلا ما يؤمنون من الإيمان قليل أو كثير فيقال فيهم فقليلا ما يؤمنون؟ قيل: إن معنى الإيمان هو التصديق، وقد كانت اليهود التي أخبر الله عنها هذا الخبر تصدق بوحدانية الله وبالبعث والثواب والعقاب، وتكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وكل ذلك كان فرضا عليهم الإيمان به لأنه في كتبهم، ومما جاءهم به موسى؛ فصدقوا ببعض هو ذلك القليل من إيمانهم، وكذبوا ببعض فذلك هو الكثير الذي أخبر الله عنهم أنهم يكفرون به.وقد قال بعضهم: إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء، وإنما قيل: {فقليلا ما يؤمنون} وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: قلما رأيت مثل هذا قط، وقد روي عنها سماعا منها: مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكراث والبصل، يعني: ما تنبت غير الكراث والبصل، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء بالقلة، والمعنى فيه نفي جميعه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن - الشهير بتفسير الطبري - للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف الأنبياء والمرسليـــن
0 التعليقات :
إرسال تعليق